"نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ" (التوبة: ٦٧)
ثلاثُ كلماتٍ تُلَخّص حالة من ابتعد عن الله و ابتغى
غير الصراط المستقيم سبيلاً.
و "النسيان" هنا ليس بذاك الذي يُطلق على فقدان
الذاكرة لشيء أو أمرٍ ما، فهذا محال بشأن الله عز و
جل الذي قال عنه موسى (ﷺ): "لَّا
يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى" (طه: ٥٢)، كما أنه لا يجلب على
الإنسان غضباً من الله أو عقوبة، و هو سبحانه من
أمرنا بأن نقول: "رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" (البقرة: ٢٨٦).
فالنسيان المعني به هنا هو التجاهل و عدم الاكتراث
بالشيء و ان كان ما زال في الذاكرة، و هذا هو ما
فعله الذين "نسوا الله"، فهم لم ينسوه بمعنى فقدانه
سبحانه من ذاكرتهم و إنما بمعنى أنهم تجاهلوا أمره و
لم يكترثوا بابتغاء مرضاته، بل قرَّروا أن يتخذوا
سبيل الغي سبيلاً بدلاً من سبيل الرشد. فكان
جزاؤهم من جنس عملهم، فكما لم يعبأوا برضوان الله
و تماروا بالنُّذر، لم يعبأ سبحانه بهم و تركهم يسلكون
طريق سَقَر التي لا تُبقي و لا تَذَر.
" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا
لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا • إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ
وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا" (النساء: ١٦٨-١٦٩)
و الموءمنون الذين هداهم اللهُ للإيمان و زيَّنَه في
قلوبِهم فذاقوا حلاوة الإيمان و استأنسوا بالقرب من
الله، هم الذي سيدركون أنه ما من عقوبةٍ أغلظ و لا
عذابٍ أشدّ للعبد من أن ينساه اللهُ! و ليس في الآخرة
فحسب، بل و في الدنيا كذلك!
"وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ" (طه: ١٢٤)
"ضنكاً" - أي ضيِّقة مليئة بالشقاء، فلا طمأنينة له ولا
انشراح لصدره، وإن تنعّم ظاهره ولبس ما شاء وأكل
ما شاء وسكن حيث شاء. فبالله وحده تطمئن القلوب
و تأنس النفسُ، كما يهدأ الرضيعُ و يسكن في حضن
أمه. فإذا خسرت النفسُ ربَّها بطغواها و نساها ربُّها،
صارت كالطفل اليتيم الذي فقد أبويه، فلا ظهر له و لا
مرشداً.
و نلاحظ أنه سبحانه لم يقل: "نساهم اللهُ فنسوه" بل
جعلهم هم البادئون بالنسيان و كان نسيانه لهم نتيجة
لنسيانهم له. و هكذا نجد في القرءان أن الله يؤكد
حرية الإنسان في الاختيار ما بين أن يكون شاكراً أو
كفوراً، أما فعله سبحانه فإنما هو نتيجةً لهذا الاختيار:
"نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ" (التوبة: ٦٧)
"فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" (الصف: ٥)
و النفس التي ينساها اللهُ لا تجد لها من دونه ولياً
مرشداً، فتتخبط في سيرها حسب هواها، و تنغمس
اكثر فأكثر في غيها، فتتراكم على قلبها آثار الضلال،
حتى تصبُغُ القلبَ بنكهتها و تغلِّفه بغطاء الذنوب - و
هذا هو "الرين" الذي يرين (أي يغمر و يغطي) القلوب
فتقسى:
"كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ"
(المطففين: ١٤)
و لأن الله قد نسيهم كما نسوه، يزداد هذا الرين على
قلوبهم حتى تغلق عليه تماماً، فلا يعد يرى السيئة
سيئة، بل و قد يراها حسنة فيكون كمن "زُيِّنَ لَهُ سُوءُ
عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا"(فاطر: ٨). و حينها يُطبع على هذا
القلب المتكبر و يُختم عليه بختم الضلالة المُركّبة، فلا
ينفع معه ذِكر أو موعظة، و "كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ
قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ" (غافر: ٣٥).
فكانت النتيجة لنسيان الله لهم - و التي هي التطور
الطبيعي لهذا النسيان - هي نسيانُهم هم لأنفسهم ، فلا
يعبأوا بزكاتها و لا يهتمون بنجاتها:
"وَ لَا تَكونُوا كالَّذينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ" (الحشر: ١٩)
و لذلك يمتد النسيان للآخرة، دار الجزاء الأبدي لما
اقترفوه في الحياة الدنيا:
"فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا" (الاعراف: ٥٧)
و لما كان جزاء النسيان هو النسيان، كان جزاء
الذكران هو الذكران، كما قال تعالى:
"فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" (البقرة: ١٥٢)
اي فاذكروني بعبادتي و بطاعتكم، أذكرْكم برحمتي
إياكم ومغفرَتي لكم.
فلندعوا الله جميعاً بأن نكون من الذاكرين له و
الذاكرات، فإذا مسنا طائفً من الشيطان فلنتذكر و
ننتبه، و لنردِّد في أنفسنا قوله عز و جل:
"وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي
لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا" (الكهف: ٢٤)